نُشِر هذا المقال لأول مرة بمجلة الهلال المصرية في أغسطس 1978م/ شعبان 1398هـ ضمن عدد تاريخي جاء تحت عنوان «محمد رؤية جديدة»، أصدره الدكتور حسين مؤنس، رئيس تحرير المجلة، وشارك فيه أكثر من 40 كاتبًا وأديبًا وعالمًا من ألمع كتاب مصر. (يتوفر نسخة صوتية من المقال في نهايته)
جاء للناس بشيرًا، ونذيرًا، يقول لهم: «إنما أنا رحمة مهداة»، ولقد كان كذلك فعلًا، وحين نعيش معه عليه الصلاة والسلام، في المرحلة التاريخية التي عاشها، والتي بلغ رسالته خلالها، نبصر – في غير عسر – الآثار التي وضعها عن الضمير الإنساني.
ومحمد رسول الله من أفذاذ الخلق الذين حلقوا في أعلى المستويات دون أن يفقدوا ثبات رشدهم، وحين كانت رأسه في السماء، ظلت قدماه على الأرض. وهكذا – على الرغم مما رأى من آيات ربه الكبرى – لا نجد له قط تلك الشطحات الوجدانية، أو تلك الغيبوبة الروحية، بل هناك دائمًا الحكمة الصادقة والتجربة الذكية اليقظى، والفطنة الرشيدة، التي تعبر عن نفسها في جوامع الكلم الطيب الواضح المبين.
وموقف التوجيه المحمدي ضد ما في الحياة من كذب وعجز وألم، هو الذي أُصدر به هذه الصفحات، وإنه لموقف باهر وجليل.
«سأله أصحابه يومًا: يا رسول الله أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: نعم. وعادوا يسألونه: أيكون بخيلًا؟ قال: نعم. وسألوه للمرة الثالثة: أيكون كذابًا؟ قال: لا». أي بصر ثاقب، وأية بصيرة عليا؟!
إن محمدًا بهذه الكلمات يفضح الكذب، ويكشف عنه كشيء دخيل على الطبيعة الإنسانية، متطفل عليها. فالمؤمن – وهو عند الرسول النموذج المكتمل للإنسان – قد تلم به فترات ضعف فيجبن؛ لأن الجبن مرتبط بإحدى غرائز البشر العنيدة، تلك هي غريزة الخوف. وقد تلم به فترات حرص فيبخل؛ لأن البخل مرتبط بإحدى غرائزنا الشداد أيضًا، وهي غريزة الاقتناء.
لكن هذا المؤمن لا يكذب، ولا ينبغي له أن يكذب؛ لأن الطبيعة الإنسانية ليس فيها من القوى الحتمية ما يحمل على الكذب، حتى غريزة الأنا نفسها والمحافظة على الذات؛ لأنه لا شيء يزكي الأنا ويحافظ على الذات مثل الثقة بها واحترامها، ولا شيء – بالتالي – يمنحنا الثقة والاحترام مثل الصدق.
وذلك أن الصدق – وهو يتضمن الشعور التام بالمسؤولية – يوحي للآخرين بأن الصادق يحمل كل تبعاته تجاههم، فيطمئنون إليه، ويبحرون بمخاوفهم وهمومهم إلى مرافئه الدافئة الوديعة السعيدة.
والكذب مفسدة مطلقة؛ لأنه سريع النمو، سريع الانتشار، وله ضراوة كضراوة الخمر أو أشد. ويكشف الرسول عن هذا فيقول: «لا يزال العبد يكذب، ويتحرى الكذب، فتنكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يسود قلبه». وسواد القلب هنا يعني مسخ شخصية الكذاب، ويعني أيضًا العقوبة الفادحة التي تحل بالكاذب؛ وذلك أن القلب الأسود لا يعجز عن رؤية غيره وحسب، بل وعن رؤية نفسه أيضًا. ومن ثم فالكذاب لا يبغض الآخرين وحدهم، بل ويبغض نفسه قبلًا، ولا يشك في الآخرين وحدهم، بل يشك في نفسه معهم. وهذا هو الجزاء العادل الذي يحصد الكاذب شوكه؛ فمحنته لا تقتصر على عدم تصديق الناس له، بل إنها تتمثل – قبل هذا – في عجزه هو عن تصديق الناس.
وهكذا ينقطع ما بينه وبينهم من أسباب ووشائج، ويصير قلبه – الذي أحاله الكذب إلى سواد فاحم – يستحيل كالمرآة التي علاها الصدأ وفقدت كل صفاتها، فلم تعد ينعكس عليها شيء من مشاهد الحياة…
وينفر التوجيه المحمدي من الكذب نفورًا يستحيل معه أي تسامح تجاهه، فالمزحة العابرة إذا انطوت على شيء من الكذب تصير كذبًا.
«يقول عبد الله بن عامر: دعتني أمي يومًا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا. فقالت: ها تعال، أعطك. فقال رسول الله لها: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرًا. فقال لها: أما إنك لو لم تعطه شيئًا، كُتبت عليك كذبة!».
وللرسول حديث نستطيع أن نبصر فيه أذكى تصوير للإشاعة الكاذبة، فهو عليه الصلاة والسلام يقول:
«إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل، فيأتي لقوم فيحدثهم الكذب فيتفرقون. فيقول الرجل منهم: سمعت رجلًا أعرف وجهه، ولا أعرف اسمه، يحدث كذا وكذا».
انظروا… «أعرف وجهه، ولا أعرف اسمه»! أليست هذه هي الإشاعة؟! نتناقلها جميعًا، دون أن نعرف مصدرها وحقيقتها، وكل حجتنا معها هي: «سمعت»!
وهنا يلامس الرسول صميم هذه الزاوية التائهة من زوايا الرذيلة الخطرة… رذيلة الكذب، فينهى عن الثرثرة بكلمات مفكرة حكيمة، فيقول: «احفظ عليك لسانك»، ويقول: «هل يكب في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!».
وإذا كان الكذب في صوره العادية الدنيا يحظى بكل هذه الكراهية، فكيف هو في صورته الأكثر خطرًا، حين يكون تزويرًا لحقائق الحياة، وتضليلًا للوعي البشري؟ لنصغِ إلى محمد عليه الصلاة والسلام يقول:
«يكون في آخر أمتي أناس دجالون كذابون، يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم».
ونظرة الرسول إلى الأشياء وإلى الحقائق تمتاز بالحس الإنساني العميق، فهو يعلم أن حياتنا الإنسانية المعقدة تحتّم في بعض الأحيان الخروج عن القاعدة. ومن ثم لم ينسَ – في حرارة ولائه للصدق – أن يشير إلى الحالات النادرة التي قد يضطر الإنسان فيها إلى أن يقول ما ليس صدقًا، ولكنه أيضًا ليس كذبًا، فيقول عليه الصلاة والسلام: «ليس بالكذاب الذي يصلح بين اثنين فيقول خيرًا أو ينمي خيرًا».
ويسأله رجل قائلًا: يا رسول الله، أكذب امرأتي؟ فيجيبه الرسول قائلًا: «لا خير في الكذب». يقول الرجل: إني أعدها وأقول لها. فيجيبه عليه السلام: «لا جناح عليك».
على أن محمدًا يبلغ بالصدق أرفع منازله حين كان يقول: «إنما أنا بشر». يا لجلال هذا الإنسان! في الوقت الذي يقول فيه صادقًا إنه رسول من الله للناس، يقول أيضًا: أنا بشر. وفي الوقت الذي كان معه من الله وحي، كان أيضًا يبتدر أصحابه ليستشيرهم.
إنه هنا يحلق في أرفع منازل الصدق مع النفس، والصدق مع النفس يعني معرفتها جيدًا، ويعني التفوق على خداعها، ويعني – أخيرًا – احترام الحقيقة احترامًا يجعل الإذعان لسلطانها عبادة وشعيرة. وعندئذ يبرأ الإنسان من آفة الكِبر التي تجعله يرى نفسه فوق الحق وفوق الصدق، والتي يقول الرسول عن أصحابها:
«لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يُكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم».
كذلك يبرأ الرسول من آفة الجبن التي تجعل صاحبها يهرب من الحق ويتجنب تبعات الصدق، تلك الآفة التي يدعو الرسول إلى مقاومتها فيقول: «ألا لا يمنعن رجلًا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه».
وتنفذ بصيرته الثاقبة إلى أعماق فضيلة الصدق، فيكشفها مرتبطة بأقصى حاجاتنا الإنسانية… أجل، مرتبطة بسكينة النفس التي نسعى جميعًا نحوها ونعمل دائبين لإدراكها. يقول:
«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة».
وضد العجز، يقف محمد وقفة ذكية بليغة: «استعن بالله ولا تعجز». ومن العجز أيضًا الهروب من تبعات التقدم، والزحف إلى الوراء، تخليًا عن واجبات الغد. وهنا يجلجل الرسول عليه الصلاة والسلام قائلًا:
«يذاد أناس من أمتي يوم القيامة عن الحوض، فأنهض لأشفع لهم، فيقول الله لي: لا تفعل، إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم كانوا يمشون القهقرى على أعقابهم».
ومن دواعي العجز النَّمّ والتشاؤم، فماذا يقول الرسول فيهما؟ «لا تقل: لو، فإن لو تفتح عمل الشيطان». وفي التشاؤم يقول: «الطيرة شرك… الطيرة شرك… الطيرة شرك». والطيرة هي التشاؤم. وأيضًا يقول عليه الصلاة والسلام: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل». سأله أصحابه: وما الفأل؟ فأجابهم: «كلمة طيبة».
«كفى بك إثمًا أن تحدث أخاك حديثًا هو لك به مصدق، وأنت له به كاذب».
«آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان».
«إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا… وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون».
«ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء».
«لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر».
«لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه».
«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل».
«خذ من شبابك لهرمك، ومن غناك لفقرك، ومن صحتك لسقمك».
«لا تُظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك».
«إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
«البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس».
«اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن».
«إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا».
«خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجار عند الله خيرهم لجاره».
«ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غُفر لهما قبل أن يتفرقا».